لوحة من السماء


انقضى النهار مثقلاً بمتاعب الدرس وهموم الإمتحانات، إنها الفترة الأصعب من السنة، حيث تنقضي أيامها ثقيلة طويلة، لا يؤنس وحشتها سوى رفقة كتاب توحّد معها حتى بدا كأنه لا ينسلخ عنها أبداً.

وقفت في نافذة غرفتها المطلّة إلى الشرق، لكنه ليس موعد شروق الشمس!… أيام تشرين تدغدغ الأنفاس بنسمات تشتدّ قسوتها حتى تكسر كل حواجز الجسد فتلامس أعماقه وتدعوه إلى الحياة.. هذه النافذة كانت متنفّسها إلى الحرية فيسرح بصرها إلى اللاّ محدود، وتقف عند حدود قمة الجبل حيث ترى منه شروق الشمس مع إطلالة كلّ صباح. وبينما هي تحدّق في مجموعة الغيوم التي اصطفّت عند أطراف ذلك الجبل بدأ حرف من النور المتلألىء البياض بالظهور شيئاً فشيئاً حتى اكتمل بدراً أبيض برّاقاً… إنه القمر في ليلته الخامسة عشرة.

ما هي إلاّ لحظات حتى تلقّفته غيمة كبيرة سارعت في إخفائه وراءها، كانت تنتظره قرب الجبل كعاشقين تواعدا ليلتقيا… إنها كبيرة، رمادية اللون، تميل إلى الإسوداد … تتمازج فيها الألوان، فتفتح تارة وتشتد أخرى والقمر يظهر من بين ثقوبها فلا تلبث أن تخفيه في ثناياها كأنها تخشى عليه من التيه في أحضان غيمة أخرى!

حتى إذا ما اختفى خلف لونها الرمادي تجلّت بنوره مضيئة كأنها مصباح كبير عُلِّق في السماء… وتلألأت أطرافها وكأنها أسطر من ذهب مرصّع فبدت كإكليل نور يُتوِّج جبهة العروس.

انتبهت من وقفتها تلك على صوت أمها الحنون التي كانت دوماً تتفقّدها لتطمئن عليها وتحضر لها في كل مرّة كوباً من الشاي، أو من عصير الفاكهة قائلة: “هذا سيزيد من نشاطك يا عزيزتي.” تشكرها وتعود لمتابعة دروسها بجد..

 

 

أشرقت شمس نهار جديد، والغيوم لم تعد متلاصقة بل توسّعت وانتشرت حتى كادت تغطي صفحة السماء..         جلست على شرفة غرفتها ترشف فنجاناً من القهوة، وتستجمع نشاطها قبل أن يبدأ نهار الدرس الطويل.. وفي جلستها تلك، وبينما احتضنت في عينيها القرى المترامية الأطراف، استقرّ نظرها من جديد عند أطراف ذلك الجبل، ثم ثبّتتها في السماء علّها تحلّ بعضاً من رموزها سيما وأنها قد بدت لها مثل لوحة أسطورية خرجت من العصور الغابرة، أو من حكايات الجدّات التي كانت تُروى…

ماردٌ أسود، يده ممدودة تحمل طبقاً مملوءاً على شكل دائرة منتفخة، ماردٌ آخر له كرش كبير قد أوسع الخطى وراءه كأنه حارسه! وحشود مختلفة تسير وراءهم، تراصَّت على بعضها البعض حتى بدت كتلة واحدة، أنهم موكب هذا المارد الذي ربما يحمل هديّة إلى ملك عظيم!…

أمامهم بحر كبير لا يخشونه بل هو بصفاء ازرقاقه يخشى سوادهم وظلمتهم فيوسعون الخطى فيه غير آبهين بسير طويل. من حولهم أشخاصاً يلهون، واحد يقفز هنا، وآخر يقلب هناك.. وغيره يركض كأنه في سباق! بينما ينام أحدهم على بساط الريح فيحمله إلى البعيد البعيد… كلهم يبتعدون، فيصبحون كأوراق خريفية، ملوّنة، مبعثرة في السماء منها الأحمر، ومنها الأصفر ومنها ما زال يحافظ على بعض الإخضرار الباهت حتى يعود أزرق متماهياً مع لون السماء.

كل هذا يجري حول هذا المارد الأسود الذي يبدو أنه غير آبه بشيء، بل يجدّ المسير متابعاً موكبه الجليل بكل أُبّهة وجلال.. فإلى أين يخطو هذا المارد العجيب.. برفقة هذا الجيش الرهيب؟!… وما هي تلك الإشارات التي تكبر وتصغر وتتبدّل ألوانها وكأنها عروس تستعرض فساتينها، ثم تختفي وراء الستار، خلف تلك الحشود التي لا زالت تمضي في مسيرها، فتنجلي صفحة السماء من ورائهم، تاركين فيها آثار أقدامهم، فلا تستعيد لونها الصافي بل تبقى معكّرةً بلون رمادي قاتم كأنه الغبرة المنطلقة من حوافر الخيول على طريق قروي ترابي مهمل.. وتبقى السماء كئيبة لا تستعيد هدوءها بسرعة، وكأنها ما زالت منبهرة بضوضاء هذا الجيش الرهيب.

وتساءلت في سكون “يا إلهي … ليل واحد يفصل بين صيف وخريف!… ويكون نهاية لسلسلة أيام متواصلة من إشراقة الشمس في سماء صافية الأديم لا يعكِّر صفوها سوى بعض العصافير الصغيرة أو بعض الحمائم التي تطير هنا وهناك… فتبقى زرقاء نقية لتفسح المجال أمام ذلك القرص المتوهِّج أن يلهب الناس بحرارته… وينتهي كلّ ذلك في ليل واحد!… وصباح يحمل معه التّغيير المفاجئ. إنها اللحظة التي تفصل بين انتهاء حدث وإعلان آخر! “…

ابتسمت لفكرة خطرت في بالها مع توارد هذه الأفكار “قريباً تأتي لحظة تفصل بيني وبين سنوات الدرس الطوال، وتعلن عن نجاح يؤسس لمنهج جديد في حياتي!..”

ماجدة ريا

عدد الزوار:2563
شارك في النقاش

2 تعليقان
  • اختي الكاتبة والمبدعة ماجدة ريا
    نشكركم كثيرا على هذه الكتابات التي تنم عن تلك الشفافية
    والتصوير الرائع وانتخاب المفردات والتنسيق المميز للعبارات وبهذا الاسلوب الشيق والرقيق والممتع والذي ينم على علو كعب في مجال الكتابة ويعكس الستوى الادبي الذي
    انتم فيه—-وفقتم لاكمال ماتتمنون الوصول الية ولاحرمنا الله من كتاباتكم المميزة اختي الكريمة
    علي عبد الحسن المالكي-العراق-البصرة

تابع @majidaraya

Instagram has returned empty data. Please authorize your Instagram account in the plugin settings .

ماجدة ريا

ماجدة ريا


كاتبة من لبنان تكتب القصة القصيرة والمقالات الأدبية والتربوية والسياسية.
من مواليد بلدة تمنين التحتا في سهل البقاع الأوسط عام 1968 . نلت إجازة في الحقوق عام 1993 من الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية ـ الفرع الرابع
حاصلة على شهادات من دورات في التربية والتعليم وفقاً للمناهج الحديثة.
عملت في حقل التدريس أحد عشر عاماً.
كتبت العديد من المقالات والقصص القصيرة في جريدة العهد ـ الإنتقاد منذ عام 1996، وكذلك بعض القصص المنشورة في مجلة صدى الجراح ومجلات أخرى في لبنان.
وقد اختيرت العديد من القصص التي كتبتها لنشرها في موسوعة الأدب المقاوم في لبنان.
وكذلك لي مقالات نشرت في مجلة المسار التي تصدر عن جامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان.
أحضر لإصدار مجموعة قصصية تضم عدداً من القصص التي تحكي عن الوطن والأرض.
لي مدوّنتان على الإنترنت إضافة إلى العديد من النشاطات الثقافية والأدبية، ومشاركات واسعة في المنتديات الثقافية على شبكة الإنترنت.