مقابلة صحفية

امتشقت قلمي، حملت بيض أوراقي، خطوت نحو تلك البوّابة الزرقاء الكبيرة حيث تلج منها إلى ممر عريض يفصل حديقة المنزل إلى قسمين…
 
رأسي مثقل بكثير من الأسئلة الحيرى التي تبحث لها عن جواب، فقد حضرت إلى هنا لأجري مقابلة مع أم ياسر، الشهيد الذي سقط في العملية النوعية الأخيرة…
 
لكم كنت أشعر بنهم لسماع أي كلمة ستقولها، ومع ذلك فقد كانت خطواتي بطيئة… وتساءلت في نفسي “هل هي الهيبة من أم الشهيد؟! أم هي رائحة التراب التي تفوح من الأرض فتخترق عظامي! هل لأن الإنسان من تراب وإلى التراب يعود؟ لست أدري….” أخذت نفساً عميقاً حتى امتلأت رئتاي، وأنا ما زلت أتابع خطواتي باتجاه الباب الرئيسي للمنزل.
 
السماء ملبّدة بالغيوم الداكنة، لم تفرغ كل حمولتها من المطر، وقد لفتتني تلك القطرات التي لا زالت تزيّن الأغصان العارية كأنها دموع الندى… وسنديانة عتيقة وقفت بكل شموخ إلى جانب الجدار زاد المطر اخضرارها توهّجاً حتى بدت كجوهرة خضراء…
 
تعانقت ألوان الشتاء في هذه الحديقة، وأكسبها كانون لون النار، إلاّ شجيرة منها أبت إلا أن تبقى في ألق.. تفتّحت ورودها نديّة بلونها الزهري يتحدّى برد كانون وقسوته.
 
استغرق مني هذا الممر القصير كل هذه الدقائق، وصلت أخيراُ إلى الباب، نقرت نقرات خفيفة ، انفتح … وظهرت منه صبيّة صغيرة قادتني إلى حيث تجلس والدتها.
 
شعرت بالرهبة من جو تلك الغرفة، أتراها ليست كباقي غرف الجلوس؟ “مقاعد أنيقة تنم عن ذوق رفيع، وديكور رائع على الرغم من بساطته يجعل النفس في حالة سكون غريب، لا .. ليس هذا هو السبب بالتأكيد!… ربما تلك المرأة التي وقفت تستقبلني؟”… امرأة في العقد الخامس من العمر، بدأت بعض التجاعيد الخفيفة تتسرّب إلى خطوط وجهها، دون أن يمنعه ذلك من أن يشع بنور غريب تجعل الناظر إليها ينجذب لتأمّل تلك القسمات.
 
بعد السلام والتحية، جلست قبالتها، وشرعت في تدوين كل كلمة تلفّظت بها، وحاولت أن تتضمّن كلماتي اللذة التي كانت تتحدّث بها عن صفات ومآثر الشخص الذي طالما أحبّته ولا زال يسكن الفؤاد…
وفي الختام كان سؤال: “ما هي أعز أمنية لديك الآن؟”
 
دمعت عيناها وبصوت أجش جعل القلم يرتعش في يدي قالت “أتمنى أن أستطيع الذهاب إلى المكان الذي استشهد فيه، وأزرع وردة هناك!”
 
لم أستطع أن أمسك دمعتين سالتا على وجنتي وأنا أردد “أتمنى من الله أن يحقق لك أمنيتك هذه عندما تتحرّر الأرض”.
 
بزغ فجر الخامس والعشرين من أيار (مايو) لعام 2000، محمّلاً بعبق أريج الإنتصار والتحرير، ودحر العدو عن معظم أراضي الجنوب…
 
الناس يتدافعون باتجاه الحلم، كل يريد أن يبارك أنفاسه بتنشق هذا الهواء الذي حرموا منه طويلاً.
 
لم أنسَ أمنية تلك المرأة، وقرّرت أن أشهد تحقيقها، وقد اتخذ المعنيون الترتيبات اللازمة لأخذها إلى ذاك المكان الذي يصعب الوصول إليه.
 
وجدتني أقف أمام تلك الدار مرّة أخرى وكان الخبر قد سبقني إليها، فها هي المرأة الخمسينية بكل وقارها تقف في الخارج، تنتظر كأننا على موعد، موعد تحقيق الحلم.. والأمنية التي حامت في قلبها لسنوات، أرض الحديقة تموج بالإخضرار، وقد انبعث عطر ورودها التي تلوّنت بلون العيد في كل مكان يعطّر الأجواء، واستدفأت بأشعة الشمس فانعكست إشعاعاتها أنوار فرح تبلسم الجراحات، وتُشعر الناظر إليها بنبض الحياة.
 
لا زالت السنديانة العتيقة تقف بشموخ قرب الجدار ينبعث من داخلها زقزقات وتغاريد، تردّد حكايات النصر مع فرح الربيع!
 
تلاقت عيوننا، ابتسمت، فبادلتني الإبتسام، وما لبثت أن احتضنتني بحرارة ثم نظرت في وجهي وهي تقول بصوت أجش ” جئت تشهدين تحقيق الأمنية؟!”
 
هززت رأسي علامة الإيجاب، وانطلقنا معاً في السيارة التي كانت تنتظرنا عند المدخل.
 
السيارات تسير في قوافل باتجاه الجنوب…
 

القرى الجنوبية تعيش عرس التحرير…
الناس يعقدون حلقات الدبكة الشعبية في الطرقات والساحات…
ولسان حال النساء أهازيج وزغاريد…
 
من وقت لآخر كنت أسرق التفاتة إلى وجه المرأة التي تجلس بقربي، كانت هي الأخرى تحدّق من نافذة السيارة في كل ما يجري فيشعّ من عينيها نور غريب يضيء قلبها.
 
بدأت السيارة تتنحى عن الطريق الرئيسي لتدخل في طرقات فرعية، إلى أن وصلنا المكان المقصود.
 
توقّفت السيارة… ترجّلت ” أم ياسر”، وبشكل تلقائي جثت على ركبتيها، مدّت كلتا يديها إلى التراب، حضنت من حبّاته ما استطاعت، رفعتها إلى وجهها، شمّتها بملء رئتيها.. صاحت: “لا زالت رائحتك ها هنا يا ولدي، إنّي أشمّها… أحسّها… أرى روحك وأرواح الشهداء تفتح بوابات التحرير… تتقدّم الناس…تهلّل، تُكبّر… أشعر أن عرسكم اليوم أكبر من عرسنا، وفرحتكم أكبر من فرحتنا… أنتم الأحياء… أنتم الأعلون…”
 
كانت تتلمّس كل ذرّة من ذرّات التراب الموجودة في ذلك المكان، وتحتضن صورته في عينيها…
 
كان قلبي ينبض بعنف، وحواسي لا تكفيني لاستيعاب ما يحدث… بقينا نراقب حركتها العفوية، وكلماتها التي انطلقت دونما تحضير، لتفيض بمشاعر جيّاشة.
 
حملت شتلة الورد التي أحضرتها معها، وغرستها في تلك البقعة من الأرض.
ماجدة ريا


عدد الزوار:2506
شارك في النقاش

تابع @majidaraya

Instagram has returned empty data. Please authorize your Instagram account in the plugin settings .

ماجدة ريا

ماجدة ريا


كاتبة من لبنان تكتب القصة القصيرة والمقالات الأدبية والتربوية والسياسية.
من مواليد بلدة تمنين التحتا في سهل البقاع الأوسط عام 1968 . نلت إجازة في الحقوق عام 1993 من الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية ـ الفرع الرابع
حاصلة على شهادات من دورات في التربية والتعليم وفقاً للمناهج الحديثة.
عملت في حقل التدريس أحد عشر عاماً.
كتبت العديد من المقالات والقصص القصيرة في جريدة العهد ـ الإنتقاد منذ عام 1996، وكذلك بعض القصص المنشورة في مجلة صدى الجراح ومجلات أخرى في لبنان.
وقد اختيرت العديد من القصص التي كتبتها لنشرها في موسوعة الأدب المقاوم في لبنان.
وكذلك لي مقالات نشرت في مجلة المسار التي تصدر عن جامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان.
أحضر لإصدار مجموعة قصصية تضم عدداً من القصص التي تحكي عن الوطن والأرض.
لي مدوّنتان على الإنترنت إضافة إلى العديد من النشاطات الثقافية والأدبية، ومشاركات واسعة في المنتديات الثقافية على شبكة الإنترنت.