أنا أريد أن أكون

ضوء

نفض عنه غبار آلامه، ورمى بطرفه إلى تلك الأوراق المرميّة أمامه على الطّاولة الخشبية الصغيرة، جمّعها؛ ثم بعثرها من جديد، وهو يقرأ إمضاءه في أسفل كل منها “أنا أريد أن أكون”.

جملة لم تغب عن أوراقه أبداً.

وبينما تلك الأوراق تترجرج بين يديه، تناول من بينها ورقة غريبة عن أقرانها، لكنّها ليست غريبة عنه أبداً؛ فهو من رسمها، وحدّدها بأدقّ تفاصيلها، بعناوينها الكبيرة والصغيرة، رسمها بريشته المكسورة، وأوراقه المجموعة من هنا وهناك، بيديه الباردتين كجليد أيامه التي يعدّها يوماً بعد يوم، رسمها بنيران فكره المتوّقد الذي لم تهدأ حرارته يوماً.

تأمّلها، إنّها شخصيته، أشار إليها بسبابته، وبنظرات ثاقبة كالصّقر؛ كأنه في تحدّ مرير “نعم، هكذا أريد أن أكون”.

شيء كالبرق يلمع أمام وجهه، يبهره، يغمض عينيه بشدة، كحركة تلقائية لذلك اللمعان المفاجىء، ويفتحهما مسرعاً؛ ليستكشف مصدر تلك القهقهات العنيفة، ولكن قبل أن يتسنّى له رؤية أي شيء، يشعر بسخونة الدماء تسيل منه.

كتم في قلبه صرخة ألم حادة؛ لأنّه لو أطلقها لأذهلت كلّ أثرياء الأرض، فمادت بهم، لكنه لم يستطع أن يمسك دموعاً غزيرة انهمرت في صمت. رفع عينيه في الماثل أمامه؛ ليتعرّف على غريمه، وما لبث أن تساءل بذهول:

” أيمكن لنا أن نرى القدر؟!”

ويجيبه الماثل أمامه مستهزئاً:

” نعم، أنا قدرك هل تراني؟”

ضمّ جرحه بيده، ورفع في وجهه نظرات ملؤها التحدّي. هزّ رأسه وهو يقول:

“لا أحد يفرض عليّ قدري، أنا أصنع قدري بيدي”

” ماذا قلت؟!”

” قلت أن ضرباتك لا تخيفني، ولا تثبط عزيمتي؛ ومهما حاربتني، أنا سأكون أنا، كما أريد أن أكون”

“خذ إذاً”

وانهال عليه ضرباً بسيفه؛ فكان يتّقي الضّربات العنيفة بصدره ومرفقيه، يصارع نوبات الألم في تحدّ رهيب؛ إلى أن شعر أنه في غيبوبة كالحلم، استفاق بعدها على هدوء أشبه بالسكون الذي يلي عاصفة مليئة بالعويل. نظر إلى جراحاته العميقة؛ فإذا بها قد اندملت تحت عضلات صلبة، متينة، لا تخترقها السيوف.

ها هو قوياً كما أراد أن يكون، ابتسم في سرّه وهو يردّد:

” أجل نحن من يصنع القدر”.

ماجدة ريا

عدد الزوار:2416
شارك في النقاش

تابع @majidaraya

Instagram has returned empty data. Please authorize your Instagram account in the plugin settings .

ماجدة ريا

ماجدة ريا


كاتبة من لبنان تكتب القصة القصيرة والمقالات الأدبية والتربوية والسياسية.
من مواليد بلدة تمنين التحتا في سهل البقاع الأوسط عام 1968 . نلت إجازة في الحقوق عام 1993 من الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية ـ الفرع الرابع
حاصلة على شهادات من دورات في التربية والتعليم وفقاً للمناهج الحديثة.
عملت في حقل التدريس أحد عشر عاماً.
كتبت العديد من المقالات والقصص القصيرة في جريدة العهد ـ الإنتقاد منذ عام 1996، وكذلك بعض القصص المنشورة في مجلة صدى الجراح ومجلات أخرى في لبنان.
وقد اختيرت العديد من القصص التي كتبتها لنشرها في موسوعة الأدب المقاوم في لبنان.
وكذلك لي مقالات نشرت في مجلة المسار التي تصدر عن جامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان.
أحضر لإصدار مجموعة قصصية تضم عدداً من القصص التي تحكي عن الوطن والأرض.
لي مدوّنتان على الإنترنت إضافة إلى العديد من النشاطات الثقافية والأدبية، ومشاركات واسعة في المنتديات الثقافية على شبكة الإنترنت.