تحصيل المعرفة بين التلقين وبناء الشخصية العلمية

تحصيل المعرفة بين التلقين وبناء الشخصية العلمية

يعتبر جمع المعرفة والبحث عنها من أجل تحصيلها أمراً يدخل في طبيعة فطرة الإنسان، إذ أنّه منذ أن يولد يبدأ بالبحث عن المعرفة محاولاًً اكتساب ما يستطيع منها من أجل مواجهة الحياة ، مستعيناً بأهله وهو طفل ، ومن ثم بمحيطه ومدرسته، وبعد ذلك تبقى الدروس تتوالى عليه تباعاً ، ليبقى بذلك اكتساب المعرفة أمراً ملازماً له مدى الحياة دون أن يكون له أجل محدّد وإن اختلفت الطرق والوسائل .

ويميّز الخبراء بين نوعين من التحصيل المعرفي هما : التكويم المعرفي والتكوين المعرفي، ومع اختلاف الحرف الأخير لهاتين الكلمتين يختلف المعنى لكل منهما حتى يصل إلى حد التضاد بينهما، إذ أنه لكل منهما مسار، فهما يسيران في طريقين مختلفين، ولكل طريق منهما انطلاق وهدف ونتيجة يختلف عن الآخر .

إن اكتساب المعرفة مسألة ملحة خاصة بالنسبة للطفل الذي يحتاج إلى أن يتعرّف على كل شيء ، وهنا السؤال المطروح هو : هل ينبغي أن يتحدّد المحتوى التعليمي لما ينبغي أن يتعلّمه الصغار من وجهة نظر الكبار، أم يأتي من منطلق حق الطفل في أن يعرف نفسه والطبيعة من حوله والناس الذين يتعامل معهم ، تلك المعرفة التي تمكّنه حينما يبلغ سن الرشد من الاستقلال بذاته وتحمّل المسؤولية ؟

أنصار التوجه التكويني يعتبرون أن الهدف من التعلّم هو ” تعلّم التفكير والقدرة على إجراء العمليات العقلية ، وأن دورنا كمعلّمين ينحصر في مساعدة الطفل على تنمية معرفته من الداخل ، داخل بنيته الغنية والمتكاملة ومساعدته على التعلم بذاته وفهم العالم الذي يحيط به ليس فقط في بيئته المحددة بل في عالم واحد، إن المعرفة الحقيقية لا تكتسب إلاّ في سياق النمو البيولوجي العام للطفل وليس عن طريق تراكم المعلومات الآتية من خارج هذا السياق .

كذلك الأمر يرجو التكوينيون ” أن يعاد النظر في المحتوى التعليمي المتهرئ الذي يعلم لأولادنا الآن وأن تعاد صياغته ليلتقي مع طريقة الطفل في التفكير . فهم يناشدون الكبار أن يكفوا عن التفكير بطريقتهم التي غاب عنها ما كانوا هم أنفسهم عليه عندما كانوا صغارا مثلهم ، وأن يثقوا ثقة مطلقة في أن الأطفال يرغبون في المعرفة رغبة صادقة وهم قادرون عليها ولكن بطريقتهم الخاصة .”

يعتبر بعض الخبراء التربويين (الدكتور جمال سليمان في جريدة الجزيرة السعودية) أن النشاط الطلابي لا يمكن أن يتطور استناداً إلى مؤشرات ظاهرية ( مثلاً عدد الأيدي المرفوعة أو التمرينات المنجزة..ألخ ) بل من خلال إبراز محتوى النشاط العقلي . واكتساب الطلاب لأساليب النشاط العقلي تساعد في التخلّص من مصاعب كثيرة تواجه عملية الاستيعاب سواء بالنسبة للطلبة أو بالنسبة للمدرّس ، ومن أجل نجاح هذا الأسلوب لا بدّ من وضع مجموعة أهداف رئيسة محددة إضافة إلى وجود ترابط بين المعلومات والنشاط المعرفي حيث تحدث عملية الاستيعاب من خلال توجيه نشاط الطلاب المعرفي وذلك بتدريبهم تدريباً منظًماً على اكتساب هذا النشاط أثناء اكتسابهم للمعلومات والمهارات والخبرات .

أما الباحث فلاديمير كينليف ( في ورقة عمل مقدمة إلى المؤتمر العالمي حول التعليم المفتوح والتعليم عن بعد ـ ديسلدورف ، ألمانيا، نيسان/ أبريل 2001) فهو يميّز بين التدريس والتعليم ففي حين أن التدريس يقوم بنقل معرفة ومهارات معيّنة ومحدودة، يقوم التعليم بتكوين صورة كلّية عن العالم بالإضافة إلى تمرين العقل المتعدد القدرات على التجاوب بكفاءة مع التعقيدات الجديدة للعالم. ويتوجب على الأساليب التعليمية الجديدة إضافة إلى نقل المعرفة إلى الطلاب ، أن تجعلهم قادرين على المحافظة على المستوى الملائم للأفكار والاكتشافات وعلى تطوير مهاراتهم التخطيطية من خلال التعلم الذاتي.

ومن أجل إلقاء الضوء على التمايز الشديد بين نوعي المعرفة التكويمي والتكويني يفنّد الأستاذ كمال زاخر لطيف نائب رئيس المركز المصري للتكوين المعرفي والطفل المبدع في الإسكندرية ( في بحث علمي أعدّه لمجلة الطفولة العربية العدد11 حزيران/يونيو 2002 ) العديد من البنود مقارناً بين هذين النوعين من المعرفة . فهو يعتبر أن المعرفة في التكوين المعرفي تتحقق عن طريق مجموعة متكاملة من المعلومات التي تشكل المعنى والهدف والوسيلة لاستمرار الحياة في نطاق القوانين الفيزيقية الأخلاقية ، فيكون بذلك المخرج الطبيعي للعقول التي أتيحت لها فرص النضج المعرفي الذي يعطي الإنسان القدرة على الإبداع واكتشاف أساليب لا نهائية لضمان استمرار الحياة ، وهو الدعوة الدائمة إلى إعمال العقول لما لا نهاية له من الإمكانات ، لكي يحقق الوعي بهذه الحياة .

في المقابل يرى أن التكويم المعرفي يستند إلى أن القوة فوق سطح الأرض تعتمد على المعلومات والمعلومات فقط حتى أنه أطلق عليه اسم التكويم المعلوماتي الذي يسخّر فقط لمصلحة أهداف محددة تحددها عقول لم تنضج معرفياً وهي عقول الروبوتات ( سواء كانت حية أو قدّت من فولاذ ) وهي مجرد طاقات تسيطر وتتحكم وتفرض قدراتها على سكان هذا الكوكب ، وهذا النوع من المعلومات يفقد المعلومة قيمتها بعزلها عن السياق العام للحقيقة الإنسانية لتصبح مجرد أداة لتحقيق مصلحة مؤقتة وعاجلة وهذا بدوره يؤدي إلى الصراع بين الشركات على استغلال نتائج هذه المعلومات مما يهدد القيمة الأساسية لهذه المعلومات، فهو يصنع التجمعات العنصرية والعرقية ويفرق بين أجناس الجنس البشري ومن ثم يؤسس للحروب والنزاعات ويرى فيها الحلول الواقعية لما تعانيه البشرية من أزمات .

ومن إيجابيات التكوين المعرفي أنه يفرخ القيم ويولد المفاهيم التي تقترح أساليب متعددة لاستمرار الحياة بقوة العلم ، فلا يكون نقل المعلومات نقلاً ميكانيكياً ومتفككاً بعضه عن بعض وإنما يتيح للطفل الفرص للإبداع وربطه بالمعلومة بطريقة جدلية بدلاً أن تكون المعلومة هي الأساس كما في التكويم المعرفي حيث تفرض القيم وتحدد السلوكيات فتكون سابقة بوجودها على الإنسان ، فالتكويم المعرفي يكرّس الأنانية ويعزز صفة التمحور حول الذات. في هذه الحالة تكون المعلومات هي الهم الأول بالنسبة للإنسان فتملكه كي يكون بدلاً من أن يكون بما يملك ، فالمعلومات بنظره تحقق حلماً فردياً أو حلماً جماعياً بينما تبقى المعرفة التكوينية حقيقة درامية تنبثق من الواقع الحياتي.

أخيراً يمكن القول إن التكويم المعرفي بشجرة لا جذور لها ، وهو يشجع على التملك والاستحواذ والاستهلاك، أما التكوين المعرفي فهو شجرة متأصّلة الجذور تحقق للإنسان إنسانيته واستمراريته في الحياة .

ماجدة ريا

عدد الزوار:2233
شارك في النقاش

تابع @majidaraya

Instagram has returned empty data. Please authorize your Instagram account in the plugin settings .

ماجدة ريا

ماجدة ريا


كاتبة من لبنان تكتب القصة القصيرة والمقالات الأدبية والتربوية والسياسية.
من مواليد بلدة تمنين التحتا في سهل البقاع الأوسط عام 1968 . نلت إجازة في الحقوق عام 1993 من الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية ـ الفرع الرابع
حاصلة على شهادات من دورات في التربية والتعليم وفقاً للمناهج الحديثة.
عملت في حقل التدريس أحد عشر عاماً.
كتبت العديد من المقالات والقصص القصيرة في جريدة العهد ـ الإنتقاد منذ عام 1996، وكذلك بعض القصص المنشورة في مجلة صدى الجراح ومجلات أخرى في لبنان.
وقد اختيرت العديد من القصص التي كتبتها لنشرها في موسوعة الأدب المقاوم في لبنان.
وكذلك لي مقالات نشرت في مجلة المسار التي تصدر عن جامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان.
أحضر لإصدار مجموعة قصصية تضم عدداً من القصص التي تحكي عن الوطن والأرض.
لي مدوّنتان على الإنترنت إضافة إلى العديد من النشاطات الثقافية والأدبية، ومشاركات واسعة في المنتديات الثقافية على شبكة الإنترنت.