لا تشكو

يمرّ الناس من أمامي كأنّهم خيالات، أدرك حقيقة وجودهم، وأشعر أنهم قدموا للمواساة، لكن رأسي لا يستطيع أن يستجمع ما أنا فيه، فبالكاد يدي تصافح أيديهم بحركة تلقائية، أو أرد عليهم بكلمات يمكن أن لا تضل طريقها إلى شفاهي، فهي مجرّد كلمات الشكر والإمتنان، وأنا لا زلت أقف بينهم أغوص في أعماقي، فتراني فقدت صمّام الأمان، وبات الأوكسجين الموجود في الهواء لا يكفيني إلى درجة أشعر معها بالإختناق.

أبتلع مرارة الكأس، مذهولاً، أسال نفسي عمّ حل بي؟ ها أنا أفقد الخيط الأخير الذي كان يربطني بكل ذلك الماضي العتيق، ذلك الماضي الذي انقطعت عنه ذات يوم، رغم كل ما كان يُقال عن حبنا وحياتنا وانسجامنا، رغم كل تلك الحياة الراقية، رغم كل شيء.. انقطع كل شيء، وبقي منه طفلان، صبي وفتاة، كانا الماضي الذي كبر ، وكبر إلى أن تجسّد بأجمل شاب وأروع فتاة.

تربيا  في أحضان عائلتي الجديدة، لم نبخل عليهما بالعاطفة، بل رأيت نفسي وروحي في ابني البكر، وفي إشراقة وجه ابنتي عشت نضارة الحياة.

أتنهّد لأتنشّق بعضاً من الهواء المفقود، فأشعر أن تنهيدتي هي أكبر من زفرة وجع من اقتطع شيء من ذاته!

عندما بتروا ذراعه بسبب ذلك الورم، ظننت أنه سيعيش ولو من دون ذراع، سيكمل دراسته الجامعية، سيكبر وسيتابع الطريق..

لم أصدّق يومها، ربما لأنني ما أردت أن أصدّق، فالحقيقة سرعان ما صفعتني، صفعتني بقسوة اختطاف زهر الربيع من بين يديّ، تشبّثت به، لكنني لم أفلح في استبقائه، لم يبقَ بل غادر وفارقنا على عجل من ضاقت به الدنيا، واستعجل الإرتحال إلى العالم الآخر، تاركاً أريجاً من ذكرى تتربع على عرش قلبي.

هنا مرّ، هنا جلس، هنا كان يغفو على أحلام الصبا، ترى هل رافقته في رحلته الطويلة؟

غادر على عجل، غادر ولم يبقَ..

بقيت لينا… زوّجتها، وفرحت بها، وأنجبت لي أحفاداً..

كانت تتألّق كطفلة مدلّلة، حتى عندما كان يمتدّ بها العمر، فما يزداد فيها سوى المرح والبراءة، وغمّازتا خدّيها تطويان الضحك، وتعبّئانه في سلاّت الذاكرة، ليتسرّب منها متحوّلاً إلى حزن عميق يلفّ غياهب الأعماق، تترقرق الدموع في عيني، أحبسها، لا أريد أن أبكي، هل أبكي أمام الناس؟ أم أنتظر إلى أن أجلس في غرفتي وأقفل الباب على نفسي ، أشعر برغبة ماسة في البكاء تجتاحني بمرارة، ولكن هل استطيع…؟

الأحفاد الصغار ينتظرون أن يجلسوا في حضني بعد أن يغادر الناس، أن يسألوني بلهفة جارحة أين رحلت ماما؟ أين تركتنا؟ لماذا لم تعد؟ لا تتركنا يا جدو ابقَ معنا.

ها هي الدموع تهمل من عيني رغماً عني، أرفع يدي الثانية لأمسحها قبل أن يشعر بذلك أحد.. ربما شعروا!

قلبي يشتعل بالنار، يحتاج لكثير من الدموع كي تطفىء لظاها…

أيضاً لا أصدّق ما جرى لي، لم تشكُ من شيء سابقاً…

هو ألم في الضرس! قال الطبيب أنه يجب أن نخلعه، لاستئصال الورم الذي تحته، أيعقل هذا…

خُلع الضرس، وخُلع قلبي معه!

لماذا؟ لماذ يحدث كل ذلك؟

هل يجب لصفحة ذلك الماضي أن تُطوى وتُرمى في دفتر ذكريات قديم؟

كنت قد طويتها يوماً، لكنني ما أردت أن أطوي أولادي معها؟

ما تصورت أنني سأشهد دفنهما بهذ السرعة!

لم يمهلاني كثيراً حتى غابا، تاركَين في القلب غصة وحرقة!

تركاني… رجل يقف وسط الناس، يبحث بينهم عن صورة ولديه، فيغمض عينيه ليراهما في أعماق قلبه.

لماذا؟

ما زالت كلمة لماذا تطرق رأسي بقوة فتطحنه، أهو امتحان إلهي؟ امتحان إنهاء كل تلك الحياة؟

يا له من امتحان!

إلهي أعني على تخطي هذا الإمتحان الذي أدمى قلبي.

كتبت بتاريخ 21/6/2008

ماجدة ريا

 

عدد الزوار:2569
شارك في النقاش

تابع @majidaraya

Instagram has returned empty data. Please authorize your Instagram account in the plugin settings .

ماجدة ريا

ماجدة ريا


كاتبة من لبنان تكتب القصة القصيرة والمقالات الأدبية والتربوية والسياسية.
من مواليد بلدة تمنين التحتا في سهل البقاع الأوسط عام 1968 . نلت إجازة في الحقوق عام 1993 من الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية ـ الفرع الرابع
حاصلة على شهادات من دورات في التربية والتعليم وفقاً للمناهج الحديثة.
عملت في حقل التدريس أحد عشر عاماً.
كتبت العديد من المقالات والقصص القصيرة في جريدة العهد ـ الإنتقاد منذ عام 1996، وكذلك بعض القصص المنشورة في مجلة صدى الجراح ومجلات أخرى في لبنان.
وقد اختيرت العديد من القصص التي كتبتها لنشرها في موسوعة الأدب المقاوم في لبنان.
وكذلك لي مقالات نشرت في مجلة المسار التي تصدر عن جامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان.
أحضر لإصدار مجموعة قصصية تضم عدداً من القصص التي تحكي عن الوطن والأرض.
لي مدوّنتان على الإنترنت إضافة إلى العديد من النشاطات الثقافية والأدبية، ومشاركات واسعة في المنتديات الثقافية على شبكة الإنترنت.