” هل وصل الجميع؟”
رنّت كلمات الناظر العام في أذنينا بكل لطف ومودّة وهو يتفقّد وجوه أعضاء اللجنة الإجتماعية في المدرسة، والتي كانت تتكفّل بحضور المناسبات الإجتماعية للأفراد العاملين فيها من مدرّسين، إلى إداريين، إلى عمّال، وسائقين…
هذه المرّة كنّا متوجّهين للمباركة والتهنئة بزفاف الأستاذ “علي” مشرف النشاطات في المدرسة، وهو فنّان متمرّس في التخطيط والرسم، تنطق لوحاته وأعماله بما يختزن في نفسه من حسٍّ مرهف وذائقة فنّية عالية، وكان ذلك يتناسب مع دقّة ملامحه التي رسمها الخالق بإتقان، ووهبه معها ذلك الثغر الباسم للحياة.
سألتُ صديقتي جميلة التي كانت تجلس بجواري:
” هل تعرفين زوجته؟ فهي من بلدتكم؟”
“طبعاً أعرفها، أعرفها جيداً ومنذ زمن بعيد، يوم كنا في مدرسة واحدة.”
“وهل هي لطيفة مثله؟”
“سترينها يا سعاد”
كنا قد وصلنا إلى باب المنزل، وظهر من خلاله الأستاذ علي بابتسامته المعهودة التي لا تفارق ثغره، مُرحِّباً بالضيوف، مُستلماً هديته.
 دخلنا إلى غرفة الجلوس حيث أخذ كل منا مكانه، ولا عجب في أن منزله كان ملفتاً ينم أثاثه عن ذوق فنان محترف، أما الألوان فقد طغى عليها اللون “الخمري” والذي يعطي انطباعاً دافئاً لمن ينظر إليه، وهمست في أذن صديقتي:
“إنه صاحب ذوق رفيع”
فقالت “وزوجته أيضاً فقد اشتركا معاً في الإختيار”.
” لقد شوقتني، ألن تأتي لنتعرّف عليها؟”
“ها قد أتت”
وقف الجميع ليسلم عليها مهنّئاً، وأنا أتأمّلها بتمعّن، كانت رشيقة القامة، جميلة الملامح، وثبّت نظري على وجهها، أدرس تفاصيله، وددت لو أستطيع أن أرى عينيها، “فلم تضع تلك النّظارة السوداء؟ فلا يظهر منهما شيئاً”. سلمت عليها متمنية لهما حياة هانئة، وجلست أتأملها بصمت، والحيرة تستبد بي. لاحظت جميلة ذلك، لكنها ابتسمت وكأن شيئاً لم يكن.
فكّرت أنها ربما تكون ضريرة؟ لكنها كانت تقوم بواجب الضيافة على أكمل وجه ودون مساعدة من أحد، وتتنقّل في المنزل دون الإستناد إلى أي شيء، فعلاً إن الأمر محيّر، أتذكر الكلمات التي قالتها لي جميلة قبل قليل، إنها شاركت في اختيار الألوان والديكور، أتحدث إليها فتلتفت نحوي كما لو أنها كانت تراني لكنني لا أرى عينيها، فتزداد حيرتي، وأحاول أن أخفيها، لتمر الأمور عادية، والسؤال يكوي أحشائي:
” هل يمكن أن تكون ضريرة؟!”.
في طريق عودتنا، نظرت إلى جميلة وسألتها بفضول:
” هل تضع هذه النظارة دائماً؟ كنت أتمنى أن أرى عينيها.”
نظرت جميلة نحوي وقد تحشرج صوتها، وامتلأ بالتأثّر:
” نعم، تضعها دائماً!”
” لا تقولي إنها…”
” بلى يا سعاد… إنها ضريرة”
” ولكنها تتصرف بثقة تامة ودون مساعدة من أحد، ولا حتى بعصا؟”
” صحيح، لأنها مبصرة القلب، فأنت لا تعرفين عنها شيء إذاً”
” حدّثيني عنها، لقد أثرت فضولي أكثر”
” إنها تقوم بكل أعمال المنزل حتى الطهو وبدقة متناهية، بل وتحيك الصوف أيضاً”
” دون أن ترى”
” ولا ترضى بأي شيء ما لم توافق عليه، من خلال اللمس، والإحساس العالي، والوصف..”
“وهل تستطيع تخيل الأشياء؟”
“جداً! فهي لم تولد ضريرة يا سعاد”
قالت ذلك بصوت منكسر وكأنّها تحس بألم صديقتها، وحسرتها لفقد بصرها، فتابعت حديثي معها وقد جرفتني المشاعر نحو الشاطىء الآخر، هناك حيث يمكن أن تشعر بقيمة النعمة العظيمة التي يفتقدها من خسرها، وعادت تلوح لي عن قرب ، حتى غدت قريبة جداً من مخيلتي، فأجهد باستحضارها، وتأسرني الأسئلة “أنّى لها استذكار كل تلك الأشياء بعد أن مرّ عليها زمن بعيد، لتحسّ بها بتأثّر بالغ، وتعيشها وكأنها تعيش حياة طبيعية لم تعطب، وكم تملك من الإيمان بما قسم لها ربّها، فتعيش هانئة، راضية، وتجهد في القيام بدورها بشكل فاعل دون ان تتحول إلى عبء يثقل على الآخرين”.
خرجت الكلمات بصعوبة من بين شفتي وأنا أسألها:
“كيف حدث لها ذلك؟”
“في حادثة في المدرسة، كانت في الحادية عشر من عمرها”
” صحيح… لقد أخبرتني أنكما كنتما في مدرسة واحدة”
إلى أن تعرّضت لهذا الحادث المرير، لكننا بقينا صديقتين، بل هي من أقرب صديقاتي “
” جميل أنها ما زالت تُقبل على الحياة بقلب منفتح، وإيمان كبير”
” إن لها قلباً منفتّحاً ومبصراً أكثر مما تتصورين.”
” لا أعرف ماذا أقول…في الواقع إنّ العمى الحقيقي هو عمى البصيرة وليس عمى البصر.”
“فعلاً يا صديقتي، إنّ العمى الحقيقي هو عمى البصيرة وليس عمى البصر.”

ماجدة ريا

7/2/2007

عدد الزوار:2036
شارك في النقاش

تابع @majidaraya

Instagram has returned empty data. Please authorize your Instagram account in the plugin settings .

ماجدة ريا

ماجدة ريا


كاتبة من لبنان تكتب القصة القصيرة والمقالات الأدبية والتربوية والسياسية.
من مواليد بلدة تمنين التحتا في سهل البقاع الأوسط عام 1968 . نلت إجازة في الحقوق عام 1993 من الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية ـ الفرع الرابع
حاصلة على شهادات من دورات في التربية والتعليم وفقاً للمناهج الحديثة.
عملت في حقل التدريس أحد عشر عاماً.
كتبت العديد من المقالات والقصص القصيرة في جريدة العهد ـ الإنتقاد منذ عام 1996، وكذلك بعض القصص المنشورة في مجلة صدى الجراح ومجلات أخرى في لبنان.
وقد اختيرت العديد من القصص التي كتبتها لنشرها في موسوعة الأدب المقاوم في لبنان.
وكذلك لي مقالات نشرت في مجلة المسار التي تصدر عن جامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان.
أحضر لإصدار مجموعة قصصية تضم عدداً من القصص التي تحكي عن الوطن والأرض.
لي مدوّنتان على الإنترنت إضافة إلى العديد من النشاطات الثقافية والأدبية، ومشاركات واسعة في المنتديات الثقافية على شبكة الإنترنت.