المرأة والإعلام

ملاحظة: ألقيت هذه المحاضرة في مجمع الإمام علي عليه السلام في الضاحية الجنوبية لبيروت يوم أمس

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيد المرسلين أبي القاسم محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.

السلام عليكن أمهاتي أخواتي الكريمات ورحمة الله وبركاته.

السلام على من اختصّهم الله بالسلام، على من هم خير الأنام، على آل البيت الكرام.

السلام عليكِ يا سيدتي ومولاتي يا زينب، وقد عدتِ غريبة وقد أحاط بكِ الأعداء، يحاولون رميك بسهام الغدر، لكن هيهات أن يكون لهم ذلك، فأنت محميّة بقلوب الوالهين، يحمونك بأشفار العيون… سيدتي، قلوبنا عندك، تهفو لمرقدك الشريف، وهو محاط بنور الأولياء.

في رحاب الذكرى الميمونة لولادة هذه السيدة العظيمة التي أعطت التاريخ ما أعطت، فكانت مدرسةً تتتلمذ على يديها الأجيال، وتنهل من معين مواقفها التي لا تنضب، وهي التي رسمت للمرأة دوراً رسالياً عظيماً، جسّدته على أرض الواقع مواقف بطولية تنحني أمام عظمتها القامات، لا بد لنا من أن نعرّج على هذه المدرسة لنرى كيف يمكن أن نكون زينبيات قولاً وفعلاً، ونستشرف من نور عطاءاتها ما يعيننا على ما نمر به في حياتنا، وكيف يمكن أن نواجه شدّة الخطوب.

السيدة زينب عليها السلام تلك المرأة التي خلّد التاريخ بطولاتها، لم تكن كباقي النساء، وهي سليلة بيت النبوة والإمامة، وأهل العصمة، وقد سطّرت في كربلاء من المواقف ما يدعونا للتوقف والنظر ملياً وأخذ الدروس والعبر من تلك القامة الشامخة.

سننظر الآن أخواتي الكريمات إلى جانب مهم جداً من جوانب هذه الشخصية، لنضيء على بعض من مكنوناته، هذا الجانب هو الدور الإعلامي الذي اضطلعت به سيدتنا ومولاتنا زينب عليها السلام.

قد تقول قائلة منكنّ وهل كان في ذلك الوقت يوجد إعلام؟

طبعاً الإعلام في ذلك الوقت لم يكن على ما نحن عليه اليوم من التطور، بل كان إعلاماً بدائياً، مثلاً إذا كان الوالي يريد أن يبلّغ مرسوماً للناس (أي الفرمانات التي كانت تصدر عن الوالي في تلك الأيام) كان يرسل شخصاً إلى الساحة العامة ليجمع الناس حوله من خلال قرعه للطبل، وعندما يجتمع الناس كان يقرأ عليهم ذلك الفرمان لكي يطّلعوا عليه ويلتزموا به.

في ذلك العصر، لم يكن هنالك إذاعات ولا تلفزيونات، وبالتالي طرق التواصل الحديثة من إنترنت وما يحويه من مسهّلات لهذا التواصل، لم تكن موجودةً أيضاً، وكان الأمر يتوقف على ما ينشره الأشخاص من خلال التبليغ به عند كل تجمع.

فكيف أدّت السيدة زينب عليها السلام دورها كإعلامية بارزة؟ وهل نجحت في ذلك؟

كلنا يعرف الدور العظيم الذي اضطلعت به السيدة زينب عليها السلام، وأنّها هي التي حفظت العيال والنساء ورعتهم بعد استشهاد أخيها الإمام الحسين عليه السلام الذي كان قد أوصاها بذلك، والذي كان أيضاً قد هيّأها لهذا الدور العظيم المناط بها، والمهمة هنا لم تقتصر على حفظ الركب، وإنما على حفظ ثورة أخيها أيضاً وإكمالها، لأنه لولا الدور الذي قامت به هذه السيدة العظيمة، لما وصل إلينا ما وصل عن تلك الثورة، والتي حاول البغاة طمس معالمها، وحرفها عن مسارها.

وبالإضافة إلى أن أخاها الإمام الحسين عليه السلام قد هيّأها ووضعها بصورة ما جرى وما سوف يجري، وما يتوجّب عليها القيام به من أجل حفظ الثورة بعد استشهاده، لا بدّ من الإشارة إلى أن تربية السيدة زينب عليها السلام كانت مميزة بحق، بفعل تميز مربيها، وهذا الأمر لم يكن عن عبث وإنما كان أيضاً من أجل إعدادها الإعداد الملائم الذي يتناسب مع الدور المناط بها، فأعدت لتكون شخصيتها متكاملة قادرة على الثبات في أداء مسؤوليتها الربّانية الشاقة.

ومن الأمور التي تميّزت بها: الاستيعاب الكامل لفلسفة الثورة، الوعي في التحرك، الإشراف على عائلة الحسين (عليه السلام) الصبر على شدة البلاء، الإرادة القوية، القدرة على المحاججة، الحنكة في التعبير، الموهبة في الخطابة، الصلابة في التبليغ، والفكر النافذ المؤثر.. وغيرها.

وهذه صفات لا يمتلكها إلا نوادر الرجال والنساء، لذلك أصبحت (عليها السلام) ولا زالت قدوة وقيادة شرعية مخلصة وكفوءة لجميع المسلمين رجالاً ونساءً.

إضافة إلى ذلك فقد ورثت العقيلة من جدّها الرسول ومن أبيها الإمام أمير المؤمنين جميع ما امتازوا به من المثل الكريمة، والتي كان من أبرزها الإيمان العميق بالله سبحانه وتعالى، فقد روى المؤرخون عن إيمانها صوراً مذهلة، كان منها أنها صلّت ليلة الحادي عشر من محرم عام واحد وستين للهجرة، وهي أقسى ليلة في تاريخ الإسلام، وبالتالي في حياتها، صلاة الشكر لله تعالى على هذه الكارثة الكبرى التي حلّت بهم والتي فيها خدمة للإسلام ورفع لكلمة التوحيد.

والسبب في تهيئتها لهذا الدور هو ما حدّثهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمّا سوف يجري في كربلاء، فمنذ أن ولدت حضر إلى منزل ابنته السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام وطلب منها أن تحضرها له، وعندما أحضرتها ضمها إلى صدره الشريف، ووضع خدَّه على خدها وبكى بكاءً شديداً عالياً ، وسالت دموعه على خدّيه .

فقالت السيدة فاطمة عليها السلام : مم بكاؤك، لا أبكى الله عينك يا أبتاه؟

فقال: يا بنتاه يا فاطمة، إن هذه البنت ستبتلى ببلايا وترِد عليها مصائب شتى، ورزايا أدهى.

أمّا كيف تجسّد هذا الدور على أرض الواقع خاصة بعد واقعة كربلاء؟

عندما سئل الإمام الحسين عليه السلام :”لماذا تصطحب معك النساء والأطفال وأنت تعرف بأنّك مستشهد ومن معك من الرجال؟!”

كان جوابه سلام الله عليه “لقد شاء الله أن يراني قتيلاً وأن يراهن سبايا”.

إذا عزيزاتي هي المشيئة الإلهية التي يجب أن تتم، والمشيئة الإلهية لا بدّ وأن بها حكمة قد لا يدركها كثيرون، إنما أهل العصمة والعلم والإيمان يعرفون تماماً مغزى تلك الحكمة، والهدف والغاية من كل ذلك.

إن الله سبحانه وتعالى أكرم من أن يبتلي المرء فقط من أجل الإبتلاء، وإنما من أجل الوصول إلى هدف أسمى لا يتحقق إلا من خلال هذا الإبتلاء.

فما الهدف من وراء اصطحاب النساء والأطفال إلى كربلاء؟ ومن تحمّلهم كل تلك الرزايا الأليمة التي حدثت؟

الهدف هو ذلك الدور الإعلامي الكبير الذي كان على السيدة زينب عليها السلام تأديته بعد استشهاد أخيها.

أراد الأعداء أن يوغلوا في إيذاء أهل البيت، وفي تعذيبهم، لم تأخذهم شفقة ولا رحمة لا بطفل يتيم ولا بإمرأة مفجوعة، حتى بعد قتل كل الرجال، أرادوا إيذاء من تبقى، والتشفي من الذرية الطاهرة، سيما وأنه لم يبقَ تقريباً سوى آل بيت الرسول، لأن كل قبيلة كانت تأتي لتأخذ النساء والأطفال المنتمين إليها، وبقيت ذرية الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأركبوهم على الجمال الضامرة، وتحت أشعّة الشمس الحارقة، وجابوا بهم القفار والفيافي، واختاروا أطول الطرق المؤدية إلى الشام، قاصدين التسبب بأكبر أذية ممكنة للعترة الطاهرة.

فقد ساروا بهم من شرق النجف الأشرف إلى الكوفة، حيث سجّلت أولى مواجهات السيدة زينب عليها السلام مع عبيد الله ابن زياد (لعنة الله عليه) فقد أراد هذا اللعين أن يشمت بأهل البيت وما جرى عليهم من ويلات في كربلاء على يد زبانيته فتوجه بالحديث إلى السيدة زينب عليها السلام قائلاً:   

“الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم”

السيدة زينب عليها السلام كانت نفسها ـتأنف عن مخاطبة هذا الباغي، إلا أنّها “أتت على نفسها” من أجل تأدية دورها الرسالي في الدفاع عن ثورة أخيها الإمام الحسين عليه السلام، ومن أجل تمزيق هالة السلطة والقوة التي أحاط بها ابن زياد نفسه، فردّت عليه قائلة:

“الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد (ص) وطهّرنا من الرجس تطهيراً،

إنما يفتضح الفاسق ويكذّب الفاجر، وهو غيرنا يا ابن مرجانة”.

ردّها القوي استفزّ ابن زياد، فأراد أن يتشفّى بها فتابع بقوله:

 “كيف رأيتِ صنع الله بأهل بيتك؟”

إلا أنّ الردّ جاءه أكثر قوة واستفزازاً لهيبته المزعومة:

“ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم،

وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلاح يومئذٍ. ثكلتك أمك يا ابن مرجانة!”

ترك هذا المشهد بالغ الأثر في نفس أهل الكوفة، وكشف الغمامة عن الحق، وأظهر أحقية ثورة الإمام الذي قتل مظلوماً، ووقف الناس مشدوهين لجرأتها وهي المرأة المفجوعة بأهلها وأحبّتها. موقفها هذا أثار الكثير من التساؤلات التي ضجّت بها نفوس الناس حول الحادثة، فكان سبباً لإعادة النظر فيما جرى، ولينظر الناس في أنفسهم، فيندم من يندم، ويسعوا إلى التكفير عن هذا الذنب العظيم بمشاركتهم في قتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو حتى لعدم نصرته وخذلانه في معركة الحق ضد الباطل.

وأكمل الركب مسيره باتجاه الشام، معتمداً أطول الطرق، معتقدين أنّهم بذلك يذلّون السبايا، ويسهمون في المزيد من تعذيبهم بالمسير الشاق تحت أشعة الشمس، فمن الكوفة إلى الموصل شمال العراق، إلى مدينة نصيبين في تركيا، إلى مسكنة وهي أول بلدة من بلدان الشام، إلى جبل جوشن في حلب، إلى حماه ثم حمص ثم بعلبك إلى أن وصلوا أخيراً إلى دمشق، حيث مركز الإمارة..

وهنا يمكن أن نقول: مكروا ومكر الله والله خير الماكرين، فطول الطريق، وصعوبته، أدّيا نتيجة عكسية لما رغب به الأعداء، وكل ذلك بفضل الله سبحانه وتعالى، وفضل تلك المرأة البطلة، العالمة، القوية التي هي ابنة علي الكرار، والتي تسلّحت ببلاغة أبيها عليه السلام،  لتقلب السحر على الساحر، فكانوا كلما مرّوا بقرية تجمهر الناس حولهم لرؤية ركب السبايا، (وهذه تعتبر الطريقة الإعلامية المثلى في ذلك الوقت لتبليغ الناس بالأحداث، بمعنى آخر هي نشرة أخبار في ذلك الزمن، فالأخبار لم تكن لتعرف إلا من خلال عرض الأشخاص لها)  فكانت السيدة زينب عليها السلام تغتنم هذه الفرصة لتشرح ما جرى، وتوضّح للناس من هو المقتول، وأي ذنب عظيم اقترف هؤلاء الجناة بقتله، لتشرح للناس من هو الحسين بن علي عليه السلام، ولماذا خرج. كأنها تشرح كل خطوة، تعرّف الناس على ثورة الإمام الحسين، وأبعادها، ولولا ذلك لما وصلت إلينا ثورة الإمام الحسين بكل تجلياتها ومفاهيمها.

في دمشق جرت المواجهة الثانية التي كانت أشدّ وقعاً وتأثيراً، وقد قلبت الموازين فبعد أن جمع الطاغية يزيد (لعنة الله عليه) في قصره قيادات جيشه، ورجالات حكمه وزعماء الشام، أعدّ المجلس ليكون مهرجاناً للاحتفال بقتل أهل البيت عليهم السلام، وقد تربع هذا الطاغية على كرسي ملكه وهو يشعر أنه في أوج قوته وزهوه بانتصاره الزائف، وأخذ ينشد شعره المشهور

“ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

إلى آخر الشعر…

وقد أراد من كل ذلك استفزاز مشاعر السيدة زينب عليها السلام ومن معها، من خلال إشاعة أجواء الشماتة والإذلال والتنكيل، وهي تعيش في تلك اللحظات ظروفاً بالغة القسوة والشدة جسدياً ونفسياً، وما زالت تعيش تحت تأثير الفاجعة المؤلمة، إلاّ أن كل ذلك لم يؤخّرها عن القيام بواجبها الجهادي في وجه ذلك الطاغية المستبد، فبرزت بطلة كربلاء، وسليلة الوحي والهدى، لتؤدي دورها البطولي في إيصال الرسالة المطلوبة ولجم هذا الطاغية اللعين.

وقفت هذه السيدة العظيمة وردت عليه بكل شجاعة وإباء مستصغرة قدره وسلطانه، ومستنكرة فعلته وألقت خطبتها المشهورة: ” الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين صدق الله سبحانه حيث قال:

 (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون) سورة الروم (الروم: 10)

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء

فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة

وأن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك؟

أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هُتكت ستورهن وأبديت وجوههن.. يحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، لئن جرت على الدواهي مخاطبتك..إني والله لأستصغر قدرك وأستعظم توبيخك وأستكثر تقريعك…

إلى أن قالت: فإلى الله المشتكى وعليه المعول، فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمرنا، ولا تدحض عنك عارها”.

كانت تتكلم بكل فصاحة وطلاقة دون أن ترتعد فرائصها أو ينتابها الرعب أمام هذا الحاكم الظالم وهو محاط بجلاوزته وحاشيته.

فمرغت كبرياءه بالوحل وفضحت مخططاته التي استهدفت الإسلام، وأماطت اللثام عن الوجه الحقيقي للأمويين، وكشفت للناس زيفهم وكفرهم، وعرف الناس هذه الحقيقة المرة، فانعكس الأمر على يزيد، وتحول المجلس إلى ساحة محاكمة له ولجرائمه بعد أن كان قد أعده للشماتة، وكل ذلك بفضل الله أولاً وفضل السيدة زينب عليها السلام التي ألهبت مشاعر الحاضرين بكلماتها التي سقطت على ذلك الطاغية كسهام النار، وفوجئ يزيد بهذا الانقلاب المفاجئ وفقد السيطرة على نفسه ولم يعد يدري كيف يواجه هذا الأمر فحاول أن يمنع السيدة زينب عليها السلام من الكلام لكنه لم يفلح حتى أتمت خطبتها وأتمت الحجة على هؤلاء القوم، وأشعلت سراج الحقيقة ليستنير به من يشاء، بعد أن كان الطاغية يزيد لعنة الله عليه قد طمس الحقائق وزرع الكذب والأضاليل بين الناس.

من هنا برز الدور الإعلامي الرائد لهذه السيدة العظيمة التي علمتنا كيف نواجه الطغاة بالكلمة التي هي أشد من السيف، فالله سبحانه وتعالى عندما ذكر في القرآن الكريم “يريدون ان يطفئوا نورالله بأفواههم” قال بأفواههم ولم يقل بسيوفهم، للتدليل على أهمية سلاح الكلمة في أية مواجهة إذا أحسن استغلاله، فكانت خير من استعمل الكلمة في موضعها الصحيح لأنها عالمة غير معلّمة، ولذا استطاعت أن تؤثر في الرأي العام، وتهز عرش الدولة الاموية بعد حدوث المصيبة مباشرة.

فهذه السيدة الفاضلة، التي لم تهزمها المصائب، حتى في الليلة الحادية عشر من المحرم التي كانت أشد وأقسى ليلة مرّت على بنات الرسالة، وقفت تصلي صلاة الليل، ولم تتركها، وهي في تلك الحالة من الهم والألم، بقيت قوية صلبة، وحملت لواء أخيها، بعد أن استشهد الجميع، لتنصب للحق علماً في كل مكان مروا به، وتخبر عما جرى، ولماذا جرى.

هنا لا بدّ من أن نشهد للصمود الزينبي المتجلي بأبهى صوره، هذه المرأة التي شهدت بأم العين قتل الأخوة والأبناء والأحبة والأصدقاء، وابتليت برعاية تلك المجموعة من الأيتام والنساء المذعورين الخائفين من بطش هؤلاء الظلمة، لم تجلس لتنوح، ولم تستسلم للدمع، ولم تركن للأعداء، ولم تفقد رشدها، بل كانت كجبل شامخ لا تهزه الرياح مهما عتت من شدّة إيمانها، وقد تربّت في بيت الرسالة، في بيت أهله لا يكتسبون العلم اكتسابا، وإنما زقّوا العلم زقا، فهي عالمة غير معلمة، وفهيمة غير مفهّمة، وصابرة محتسبة.

أراد الأعداء أن يطمسوا كل تلك الواقعة، أن يقلبوا الحقائق، أن يحرّفوا ما جرى، لكنها كانت لهم بالمرصاد، كانت العين الحارسة لهذه الثورة المباركة، حتى انتصرت، ولا زالت منتصرة بنهجها وفكرها وامتدادها عبر مرّ العصور.

هذه هي سيدتنا زينب عليها السلام، وهذا جانب فقط من جوانب تلك الشخصية العظيمة، ونحن نسير على خطها ونهجها ان شاء الله، لا بدّ وأن نكون على قدر المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقنا، وقد شحن أهل البغي النفوس، وأشهروا الحرب على المقاومة من كل جانب، هذه المقاومة التي هي امتداد لثورة الإمام الحسين عليه السلام، لثورة الحق في وجه الباطل، ونحن الزينبيات امتداد لتلك السيدة العظيمة التي علمتنا كيف نواجه.

نحن اليوم في عصر ازدهرت فيه وسائل التواصل، وباتت الحروب تدار من خلال الإعلام، ويلعب الإعلام دوراً مهماً في تحفيز النفوس، وفي نشر الحقائق أو تحريفها، وقد تمادى الأعداء في غيّهم من خلال تضليلهم الإعلامي المدعوم بالأموال الطائلة، وتحريف الحقائق، وزرع الفتن، باستعمال مختلف الوسائل، من قنوات تلفزيونية، إلى إذاعات، إلى مواقع إلكترونية، فهم يبثّون سمومهم بكل طريقة وكل أسلوب، وهنا يكون أفضل الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر، وكلنا يملك الكلمة، ولكن يجب أن تأتي في موضعها وفي سياقها الصحيح، فالكلمة هي الأساس والسلاح في أي موقف إعلامي، ونحن نتعلم من  سيدتنا زينب عليها السلام كيف نستخدم هذا السلاح، فنسير على خطاها بكل عزم وثبات.

فالسيدة زينب عليها السلام التي هي قدوتنا، علينا أن نعمل على الإحتذاء بها، وعلينا أن نعي بأن  المرأة تلعب دوراً مهماً وأساسياً في هذا المجتمع، خاصة في مجتمعنا نحن أهل المقاومة، لأننا نملك في تاريخنا امرأة مثل زينب عليها السلام، تعلّمنا كيف نودع شهداءنا بكلمة “اللهم تقبل منا هذا القربان”، وتعلمنا كيف نحافظ على تعاليم الدين الحنيف، وكيف نواجه الطغاة بالكلمة والموقف دون خوف أو وجل مهما اشتدت المحن والصعاب.

أمهاتي أخواتي العزيزات كل واحدة منا يمكن أن تؤدي دوراً ما ضمن حدود إمكانياتها الثقافية والفكرية والعلمية التي تحصّلت عليها، فتمارس هذا الدور انطلاقاً من الدروس التي أعطتنا إياها السيدة زينب عليها السلام، فتساعد على بناء هذا المجتمع وحمايته من كل ما يتربص به من الأعداء، خاصة العدو الصهيوني الذي ما زال يحاربنا بشتى الوسائل. فعلينا أن تكون أعيننا مفتوحة على كل ما يقال، وأن نعرف كيف نستخدم سلاح الكلمة التي تساعد في حفظ مسيرة الشهداء الأبرار الذين رووا الأرض بدمائهم الزكية.

كل واحدة تستطيع أن تلعب دوراً معيناً في نشر تعاليم الإسلام، وحفظ الدعوة الإسلامية وحفظ ثورة الإمام  الحسين عليه السلام الذي علمنا أن يكون شعارنا دائماً “هيهات من الذلة”، وأن لا نرضخ للظالمين ولا للمفترين، فكل واحدة منكن اخواتي أمهاتي تستطيع أن تحفظ الإسلام المحمدي الأصيل الذي يتمثل اليوم بالمقاومة الإسلامية، نستطيع أن نحفظها من خلال أحاديثنا مع الآخرين وحمايتها من أي ظلم أو افتراء، وما أكثر ما تتعرض له المقاومة في هذه الأيام من ظلم وافتراءات بغية إضعافها، علينا أن نلقي الحجة على هؤلاء، وأن نوضّح الحقائق، في حديثنا أينما وجدنا.

ولا بدّ لنا من التسلّح بالعلم والثقافة، والعلم لا يقف عند حدود العمر، فكل يوم في حياتنا يمكن أن نضيف فيه جديدا، وأن نسعى لامتلاك كل أدوات المعرفة، يمكن أن نشارك في دورات ثقافية، أو الندوات الثقافية التي من شأنها أن تزودّنا بمزيد من العلم والمعرفة، لنكون دائماً على بيّنة من أمرنا. كما يمكن لنا أخواتي الكريمات أن نثبت وجودنا على كل صعيد، فالمشاركة بالمسيرات هي نوع من التعبير عن الرأي، لنوصل من خلالها كلماتنا وصوتنا إلى العالم أجمع، فلا نسكت على ضيم، بل نكون موجودات حيث يجب أن نكون.

لقد سهّل لنا هذا العصر وسائل الإتصال، وبات بالإمكان التعامل معها بكل سهولة، قد نحتاج لبعض التدريب والتعلّم، ومعظم هذا الجيل الصاعد يستطيع التعاطي معها، ولعلّي هنا أنصح الأمهات أن يتعلّمن من أبنائهن كيفية التعامل مع وسائل الإتصال هذه، فمن خلالها يمكن أن تتغير الكثير من الأمور من خلال التعامل والتفاعل معها، إذ يمكننا من خلال ذلك دعم المواقع والصفحات الخاصة بالمقاومة، والعمل على تقويتها، وإيصال رأينا من خلالها، وهكذا نشارك في قول كلمة الحق، ونشارك في رفع الظلم عن مقاومتنا.

من تستطيع منكن أن تكتب فلتكتب عن المقاومة، في الشعر، في النثر، في القصة، أي كلمة هي دعم لهذه المقاومة، ونسعى لنشرها حيث يوفقنا الله لذلك، ومن تسطيع التعامل مع الإنترنت سيسهل عليها هذا الأمر وتكون عندها من المدافعين عن نهج المقاومة، وعن سلاحها الشريف الذي لم يرفع إلا في وجه اسرائيل التي طالما آذتنا، وروّعت الأطفال والنساء وارتكبت المجازر، أما اليوم فهي أعجز من أن تواجه قوة المقاومة المدعومة من أهلها، وأنتم أهلها وناسها.

إذا أمهاتي أخواتي العزيزات، كثيرة هي الوسائل والسبل التي نستطيع من خلالها أن نواجه الجائرين والظالمين، والقعود هنا لا ينفع، وقد فضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما، فعلينا أن نعمل بكل جهد وقوة، وأن نسعى بما نستطيع لنكون زينبيات القول والفعل.

فسلام الله عليك يا سيدتي يا زينب، وسلام الله على مرقدك الشريف الذي يتهدّده الأعداء، أرواحنا فداكِ سيدتي وأنت تُسبَين من جديد، على يد جلاوزة العصر الحديث، المؤتمرين بأوامر أمريكا وإسرائيل، ولكن نعدك سيدتي أننا عن نهجكم لن نحيد، وأن كربلاء باقية فينا، نقدّم الشهيد تلو الشهيد، ولا نرضى بأقل من الحسنيين إما شهادة وإما نصر أكيد.

والحمدالله رب العالمين والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.

ماجدة ريا

 13/3/2013

عدد الزوار:3547
شارك في النقاش

تابع @majidaraya

Instagram has returned empty data. Please authorize your Instagram account in the plugin settings .

ماجدة ريا

ماجدة ريا


كاتبة من لبنان تكتب القصة القصيرة والمقالات الأدبية والتربوية والسياسية.
من مواليد بلدة تمنين التحتا في سهل البقاع الأوسط عام 1968 . نلت إجازة في الحقوق عام 1993 من الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية ـ الفرع الرابع
حاصلة على شهادات من دورات في التربية والتعليم وفقاً للمناهج الحديثة.
عملت في حقل التدريس أحد عشر عاماً.
كتبت العديد من المقالات والقصص القصيرة في جريدة العهد ـ الإنتقاد منذ عام 1996، وكذلك بعض القصص المنشورة في مجلة صدى الجراح ومجلات أخرى في لبنان.
وقد اختيرت العديد من القصص التي كتبتها لنشرها في موسوعة الأدب المقاوم في لبنان.
وكذلك لي مقالات نشرت في مجلة المسار التي تصدر عن جامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان.
أحضر لإصدار مجموعة قصصية تضم عدداً من القصص التي تحكي عن الوطن والأرض.
لي مدوّنتان على الإنترنت إضافة إلى العديد من النشاطات الثقافية والأدبية، ومشاركات واسعة في المنتديات الثقافية على شبكة الإنترنت.